دهوك.. التلوث بمخلفات الصرف الصحي يلاحق المياه الجوفية ويهدد المنتجات الزراعية (صور)
السابعة- دهوك
كيفي اسلام 34 سنة مزارع من محافظة دهوك في أقليم كردستان العراق، يشتكي من تقلص مساحات الأراضي التي يزرعها عاماً بعد آخر مثل عشرات الفلاحين، جراء تلوث المياه التي يعتمدون عليها في السقي، ويقول:”علينا ترك عملنا كلياً او الإعتماد على المياه الملوثة، ليس لدينا خيار آخر”.
اسلام، يملك قطعة أرض زراعية مساحتها دونمان في منطقة دولبي جنوب شرقي دهوك، فيها بستان فواكه وحقل لزراعة الخضروات، يؤكد أن المياه التي ترد أرضه فضلاً عن أراض مجاورة في منطقته ومناطق كفركي ومالطا السفلى وئالوكا وباختمي من نهر دهوك ومجرى “هشكه روو”، تطرح فيها مياه الصرف الصحي، بما فيها ما يخرج من بعض دورات المياه، والمياه الملوثة بمخلفات المعامل ومحال غسل السيارات والمستشفيات.
التلوث لم يعد مقتصرا على المياه الجارية التي تستخدم في الزراعة، بل امتد للمياه الجوفية في دهوك، بحسب مسؤولين ومختصين، حتى باتت مياه بعض الآبار غير صالحة للاستخدام البشري.
يعتقد المزارع الشاب ان تلك المياه “أثرت سلبا على جودة الأراضي والمحاصيل المنتجة”، وأدت إلى تراجع مستمر في الإنتاجية مع تفشي الأمراض في المزروعات. يقول: “إنها مياه مليئة بالعوالق والملوثات، وتفوح منها روائح كريهة”، مشيرا إلى أنه كان يحصد في السابق نحو سبعة صناديق من التين أسبوعياً في موسم جنيها الممتد لنحو شهرين، لكنه مؤخراً لم يعد يحصد سوى عشرة صناديق أو أقل خلال الموسم بأكمله.
يشعر بخيبة شديدة جراء ذلك، ويتابع:”هذا ينطبق على ثمار الرمان أيضاً في بستاني، وكذلك الخضار في حقلي. كما ان نوعيتها غير الجيدة تنعكس سلبا على الأسعار، فانتاج هذه الحقول يباع بأسعار منخفضة في السوق مقارنة بغيرها. كل هذا بسبب المياه الملوثة”.
تلك المياه الملوثة التي لا تخضع للمعالجة وتطرح في الأنهر، لاتهدد أرض “كيفي” الزراعية فقط، بل يمتد أثرها وفقاً لمتخصصين وناشطين بيئيين إلى المياه الجوفية أيضا، وبالتالي انسحاب ضررها على الصحة العامة لسكان مدينة دهوك والمناطق المجاورة والمحيطة بها والتي يعيش فيها نحو 400 الف انسان.
هذا التحقيق يكشف مخاطر مياه الصرف الصحي التي تطرحها المنشآت السكنية والصناعية في دهوك، الى الأنهر مباشرة، وما تشكله من تهديد للمياه الجوفية التي تختلط معها، في ظل غياب وحدات معالجة المياه الثقيلة. ويبحث في الحلول الممكنة لمواجهة تلوث المياه بنحو عام.
مصادر التلوث
المهندس والناشط البيئي كاروان بامرني، ينبه إلى مخاطر مياه الصرف الصحي غير المعالجة على السكان، ويؤكد ضرورة الاهتمام بمصادر المياه المتنوعة كالأنهار والينابيع والمياه الجوفية ومنع تلوثها، لافتاً إلى أن محافظة دهوك تعد من أغنى محافظات العراق في مصادر المياه.
في ذات الوقت يحذر من القصور في فعالية إدارة هذه المياه، والتوسع غير المدروس في حفر الآبار، وبالتالي خفض كميات المياه الجوفية. ويطالب باتخاذ إجراءات حازمة من قبل الجهات المعنية للمحافظة على كميات المياه الجوفية ونقائها لأهميتها في ضمان الأمن المائي، بما في ذلك الاستفادة من مياه الأمطار من خلال بناء السدود الخاصة بحجز مياه السيول في المناطق السهلية وعلى الأنهر، ضمن ما يعرف بعمليات حصاد المياه.
ويشير بامرني إلى وجود مصادر مختلفة لتلوث المياه، من بينها مياه الصرف الصحي وخزاناتها القساطل المرتبطة بدورات المياه، وعن ذلك يقول:”نظام القساطل هذا لايستند إلى أي أسس علمية”، ويوضح: “هي عبارة عن خزانات خرسانية مدفونة تحت الأرض، وأرضياتها تكون ترابية للسماح بالسوائل بالتسرب وبقاء الفضلات”. ثم يتساءل:”إلى أين تتسرب مياه الآلاف من هذه القساطل في دهوك؟ طبعا إلى المياه الجوفية!”.
ويورد المهندس بامرني، ملاحظات عديدة بشأن “القناة الخرسانية” لنهر دهوك، التي شيدت بطول 4 كيلومتر من منطقة كه لي دهوك الممتد من سد دهوك شمالاً ليلتقي بمجرى مياه هشكه روو عند نقطة كانى خشمانا في وسط المدينة، ويوضح:”توجد على جانبي نهر دهوك ساقيتان تُستخدمان لتصريف المياه من سد دهوك ولري البساتين وتصريف مياه الأمطار. أما في وسط القناة فيوجد مجرى خرساني، يُستخدم لتصريف مياه الصرف الصحي من المدينة الى مجرى هشكه روو. ويقول بأن مجموعة من الفلاحين قاموا بمد “أنابيب ماء” من مياه الصرف الصحي تلك الى بساتينهم الواقعة على أطراف المجرى، لسقيها باستخدام المضخات.
وتعد هذه الخطوة مخالفة لتعليمات الصحة، كون تلك المياه ملوثة ولا يجوز استخدامها في سقي حقول الخضروات خاصة انها لا تخضع لأي معالجة “إلا أن الدوائر المعنية لا تتخذ إجراءات ضد المخالفين” يقول بامرني.
ويلفت إلى أن مدينة دهوك، تحصل على احتياجاتها المائية من مصادر متعددة، أهمها مشروع ماء “خراب ديم” الذي يعتمد على مجرى نهر دجلة شمال غرب المدينة، بالإضافة إلى مصادر أخرى كالتي تزوده بها بحيرة سد دهوك وآبار عديدة في مركز المدينة.
ولا تتمثل مشكلة تلوث المياه فقط بمصادر التلوث المنزلية والصناعية داخل دهوك، بل بالملوثات القادمة من زاخو 50 كلم شمال دهوك عبر نهر دجلة، لذا يدعو المهندس كاروان إلى إنشاء وحدات معالجة للمخلفات ومياه الصرف الصحي في مدينة زاخو قبل صبها في مجرى نهر الخابور الذي يصب بدوره بنهر دجلة “لأنها تؤثر على مياه بحيرة سد الموصل حيث مشروع ماء خراب ديم الذي يغذي مدينة دهوك”.
كما ينبه بامرني الى المخاطر المرتبطة بصرف مياه الصرف الصحي من المساكن في قرية طرىَ قسروك إلى سد دهوك، وعد ذلك مصدراً رئيسياً لتلوث مياه السد المغذية للمدينة. ويضيف:”وأيضاً تصريف المياه الناتجة عن المقاهي والمطاعم المحيطة بسد دهوك في منطقة كه لى دهوك يفاقم المشكلة، مما يستدعي اتخاذ تدابير عاجلة”.
صور نهر دهوك
بائع الخضار مهدي محمد محمد 54 سنة، يملك مخزنا للخضار يعرف شعبياً بـالعلوة في منطقة مالطا السفلى بمدينة دهوك، يقول بأنه حريص على عرض أفضل الخضراوات والفواكه “أشتريها حصراً من مزارعين معروف عن بساتينهم أنها تروى بمياه غير ملوثة”.
ويؤكد بأن زبائنه يسألونه على الدوام إن كانت المحاصيل التي يبيعها مروية بمياه نظيفة، وبناءً على ذلك فهو لايشتري محاصيل الحقول والبساتين التي تعمد على مياه هشكه روو. ويضيف:”السوق مليء بها، لكنني لا أجلبها مطلقاً إلى علوتي”.
وبناءً على المخاطر الصحية المحتملة وتدني الجودة، تنخفض أسعار تلك المحاصيل، فيقول:”صندوق الجرجير المسقي بالمياه النقية على سبيل المثال يبلغ سعره 10 آلاف دينار، بينما سعر صندوق الجرجير المسقي بمياه هشكه روو الملوثة فيبلغ 7 آلاف دينار”.
مخاطر القساطل
خبراء في مجال البيئة، يحذرون من مخاطر تشييد خزانات عشوائية لتجميع المياه الثقيلة الناتجة من دورات المياه المنزلية، لأنها تتسرب وفقاً لتأكيداتهم، إلى المياه الجوفية فتلوثها. وشدد الأستاذ الجامعي والخبير في مجال البيئة، إدريس مجيد، على ضرورة “وضع نظام فعّال لمعالجة المياه الثقيلة التي تطرحها المنازل”.
ويصف بناء خزاناتها القساطل بأنها ممارسات غير مستدامة “لأنها تقام مع ثغرات تؤدي الى تسرب مواد ضارة كالبراز الى الطبقات الأرضية فتشكل بذلك المصدر الرئيس لتلوث المياه الجوفية”.
ويقول بأن الدول المتقدمة تعتمد أنظمة حديثة لمعالجة المياه المنزلية الثقيلة تتضمن تمريرها بمراحل متعددة “لتحسين نوعية المياه وبما يحافظ على البيئة”.
وينبه الأستاذ الجامعي إلى أن تلوث المياه في دهوك قد وصل إلى الآبار الإرتوازية:”قسم من الآبار القريبة من نهرهشكه روو داخل منطقة بروشكي، تم عزلها بسبب زيادة نسبة النترات في مياهها نتيجة اختلاطها مع المياه الملوثة”. وهذا ما يستوجب حفر الآبار بمواقع بعيدة قدر الامكان عن المجمعات السكنية وأماكن تربية الحيوانات.
مع انتشار مئات آلاف السكان في المدن والبلدات، واعتماد الطريقة القديمة في بناء القساطل، مع عدم فرض متطلبات بيئية وصحية محددة، يصبح تلوث المياه الجوفية أمراً حتمياً.
يقول مدير الدائرة الغربية في بلدية دهوك المهندس ديار عبد الرحمن، أنه لا توجد شروط قانونية لبناء خزانات جمع مياه المراحيض لمنع تصريف تلك المياه إلى طبقات الأرض بما تحمله من تأثيرات على المياه الجوفية “التعليمات تقضي فقط بأن تبنى داخل الحدود المخصصة للمبنى وان لا تتجاوز ذلك بامتدادها إلى الأرصفة والشوارع”.
أما بالنسبة لبناء وحدات لمعالجة المياه الثقيلة من قبل الأهالي، فيقول انه “لا يتم فرض شيء من هذا القبيل حاليا على مقدمي طلبات تراخيص البناء”، مبينا أن هذا من مسؤولية جهات أخرى مثل دائرة الماء والمجاري والبيئة وفي حال طلبت بإجراءات معينة فسيتم ضمها إلى شروط الترخيص.
صلاح نجمان 64 سنة مواطن من محلة نزاركي جنوب شرقي مدينة دهوك، يسكن مع اسرته في عمارة سكنية منذ 2011، ويشتكي منذ ذلك الوقت من طريقة تصريف مياه الصرف الصحي:”نحن نعاني من الرائحة الكريهة للمياه الثقيلة التي تخرج من خزانات الصرف الصحي المثبتة مقابل الشقق التي لا يفصل بيننا وبينها سوى 20 متراً فقط، خاصة عندما يهب الهواء باتجاهنا، يحث ذلك بشكل مستمر في أشهر الصيف”.
وعلى الرغم من النداءات المتكررة التي وجهها الى الجهات المعنية والتي اسفرت عن قيام صاحب المشروع بتغيير نوعية الخزانات وزيادة أعدادها، إلا أن المشكلة ما زالت مستمرة، كما يقول صلاح، وهذا ما دفع العديد من أصحاب الشقق الى عرضها للبيع “هرباً من الرائحة الكريهة التي تخنقهم يومياً”.
ثم يتابع بحيرة:”المشكلة في المعالجة غير الصحيحة لتلك المياه. وبالنتيجة نحن مهددون بالتداعيات الصحية لوجود تلك الخزانات، ونخشى من تأثيرها على صحة أطفالنا مستقبلاً”.
محطات المعالجة
بحسب المخطط الاساسي للمجاري في محافظة دهوك Master Plan Of Sewerage In Duhok، هناك خطط لإنشاء ثلاث وحدات معالجة لمياه الصرف الصحي الخفيفة والثقيلة “الا أنه وبسبب المشاكل المالية التي يعاني منها الأقليم منذ سنوات لم يتم تنفيذها” هذا ما يؤكده مدير دائرة الماء والمجاري في دهوك، المهندس يوسف جانو.
ويذكر بأن هنالك نوعان من مياه الصرف الصحي التي تطرحها المنازل، الأول مياه ثقيلة وهي ناتجة من المرافق الصحية دورات المياه “وتتسرب الى باطن الارض من الخزانات المقامة ضمن حدود القطعة السكنية المخصصة لكل دار”. أما النوع الثاني، فهي المياه الخفيفة مياه المطابخ والحمامات والتنظيفات المنزلية الاخرى “وتصرف الى المجاري العامة”.
وعن مياه الصرف الصحي التي تطرحها المطاعم ومحال غسل السيارات وبعض المنشآت المماثلة، يقول مدير الماء والمجاري بأنها لم تكن تعالج قبل سنة 2003، وتم بعد ذلك فرض “وضع وحدات معالجة” في تلك المنشآت، وهي عبارة عن “احواض صغيرة وفلاتر، لتصفية المياه وإعادة استخدامها”.
وفيما يخص المجمعات السكنية العمودية، فيؤكد المهندس جانو، بأن مياه الصرف الصحي فيها سواء الخفيفة أو الثقيلة، يتم تجميعها في وحدات المياه الثقيلة، وتتم معالجتها حسب مواصفات محددة، ثم تصرف الى المجاري العامة للمدينة.
لكن ناشطين ومختصين بيئيين، يشككون بجدية وشمولية عمليات المعالجة تلك، وينبهون الى ان المياه الناتجة عن المصانع والمنشآت الصناعية لا تُعالج، مؤكدين وجوب فرز الكيماوية منها عن غيرها، ومن ثم تمريرها للمجاري العامة لكن هذا لايحدث من الناحية العملية في دهوك.
شكوك المختصين تلك، أكدها مصدر من دائرة بيئة دهوك، ذكر أن بعض المشاريع السكنية العمودية تضم وحدات معالجة وليس كل المشاريع، إذ أنها تقسم إلى ثلاث فئات، الأولى، تملك وحدات معالجة بالفعل وتعمل بكفاءة، أما الثانية فتضم تلك الوحدات لكنها معطلة أو تعمل بنحو جزئي، بينما لاتملك الفئة الثالثة أية وحدات لمعالجة المياه الثقيلة.
مصدر آخر في دائرة البيئة، أفاد أن إجراءات قانونية اتخذت ضد أصحاب مشاريع الفئتين الأخيرتين.
لكن نشطاء بيئييين يشككون بجدوى تلك الاجراءات وقدرتها على فرض جميع المتطلبات الصحية والبيئية المحددة.
الأستاذ الجامعي المتخصص في مجال البيئة د. نجم الدين عزالدين، يلفت الى جانب آخر من تلوث مياه الصرف المنزلي، فقد أجرى دراسة عن طرق التخلص من الأدوية السائلة والصلبة كالحبوب، توصل فيها إلى أن الكثير من الأسر تتخلص منها، عبر رميها في “المراحيض ومجاري مياه الصرف الصحي المنزلية”.
عزالدين، حذر من التأثيرات الخطيرة التي تنشأ عن ذلك السلوك، لاسيما على جودة مياه الآبار القريبة من التجمعات السكنية حيث تكثر مجاري صرف المياه التي لا تخضع للمعالجة. ويذكر أن اختلاط المياه المستهلكة جراء الفعاليات البشرية بالمياه الجوفية جعل مياه “غالبية الآبار لا تتمتع بالجودة العالية” ما يشكل تحدياً كبيراً يتطلب تدخلا حكوميا.
لمعالجة جزء من مشكلة مياه الصرف الصحفي في دهوك، إنشأت في العام 2019، وفقاً لدائرة الإعلام والمعلومات لحكومة إقليم كردستان، محطة لمعالجة المياه الثقيلة في منطقة فايدة جنوب غرب دهوك، على مساحة تبلغ 20 دونماً وبتكلفة قدرها مليون دولار، وهي تعد الأكبر في مجال معالجة المياه الثقيلة في إقليم كردستان.
تستقبل المحطة شهرياً ما يصل إلى 70 ألف متر مكعب من المياه الثقيلة، ويبلغ إنتاجها اليومي 300 متر مكعب من المياه المعالجة، وتمتلك المحطة بين 30 إلى 40 صهريجاً لتجميع المياه الثقيلة يومياً من مناطق مختلفة ضمن حدود دهوك، لتتم معالجتها بأسلوب “علمي وعلى مراحل عدة بحيث يمكن إعادة استخدام المياه المعالجة للماشية والزراعة”.
لكن من الناحية العملية، يؤكد مسؤولون في مديريات البلدية والماء والمجاري والبيئة، ان وحدة المعالجة تلك غير كافية، مقارنة بكميات المياه الثقيلة الكبيرة التي تطرحها محافظة دهوك بكل قطاعاتها السكنية والصناعية.
مشروع معالجة المياه الثقيلة في فايدة
كوهدار محمد 57 سنةمن سكان دهوك، يعيش مع عائلته المؤلفة من ستة أفراد في منزل يتألف من طابق واحد. يقول: “لقد مضت 16 سنة على شرائي لهذا المنزل، لم أقم خلالها ولو لمرة واحدة باستدعاء صهريج سحب المياه الثقيلة من أجل افراغ محتويات القسطل!”. ويتابع وهو يبتسم:”لا أعلم إلى أين تذهب فضلاتنا، ربما تتسرب إلى مكان ما، المهم أنني لا أضطر لدفع مبالغ مالية من أجل سحب المياه الثقيلة كما يفعل آخرون كل بضعة اشهر!”.
معد التحقيق قام بجولة في مناطق سكنية عدة داخل مدينة دهوك، ووجد بأن ما قاله كوهدار، يردده كثيرون غيره من أصحاب المنازل، إذ أنهم لايفرغون خزانات منازلهم، وقلة قليلة هم الذين يفعلون ذلك لأن خزانات منازلهم صممت بأرضيات كونكريتية لاتسمح بتسرب المياه، في حين ان غالبية الخزانات الأخرى تكون بأرضية ترابية تسمح بتمرير السوائل.
صاحب صهريج لنقل المياه الثقيلة، وهو شاب في الخامسة والعشرين من عمره، طلب عدم ذكر أسمه، أكد تلك الحقيقة، مسترشدا بقلة الصهاريج العاملة في المدينة التي تضم اكثر من 250 الف انسان.
الشاب الذي يعمل في مجال نقل المياه الثقيلة منذ نحو خمس سنوات، وكان والده يعمل قبله بذات المهنة على مدى عقدين كاملين، يقول ان عدد الصهاريج في محافظة دهوك “لا يتجاوز العشرة كل واحدة تنقل المياه الثقيلة نحو ست مرات يومياً”.
ويوضح: “نقوم بسحب المياه الثقيلة من القساطل ونقلها إلى محطة المعالجة في منطقة فايدة، وفي بعض الأحيان ننقلها إلى مناطق زراعية تبعد مسافة بسيطة عن منطقتي ئالوكا وسيجي في دهوك، وبأجر يتراوح بين 50 إلى 60 ألف دينار38-45 دولار عن كل مرة”. ويؤكد أن عمله يجري بنحو مستقل.
تلوث المياه الجوفية
مسؤول قسم التخطيط في دائرة المياه الجوفية في دهوك، الجيولوجي ناجي إبراهيم حيدر، يقول بأن عدد الآبار في محافظة دهوك تبلغ 4800 بئراً، ويتوقع ان تكون هنالك 200 بئر أخرى ضمن إدارة قضاء زاخو، مبينا أن 8% من مواطني المحافظة يعتمدون على مياه الشرب من الآبار.
ويقدر حيدر نسبة سكان دهوك الذين يعتمدون على مشروع ماء خراب ديم الذي يحصل على امداداته من المياه من نهر دجلة وبحيرة سد الموصل بنحو 95%.
ويؤكد أن لمياه الصرف الصحي تأثيراً بالغاً ومباشراً على نوعية المياه الجوفية التي سترتفع الحاجة اليها في السنوات المقبلة بسبب تراجع مياه الأنهر، مبينا أن 100 بئر سبق وأن حفرت في مركز مدينة دهوك، تم اغلاق العديد منها “لكون مياهها ملوثة وغير صالحة للشرب”.
ويبرز المسؤول في دائرة المياه الجوفية، دليلاً آخر على تأثير مياه الصرف الصحي على المياه الجوفية:”لدينا بئر ماء في دائرتنا، وتظهر قياساتنا أن منسوب المياه فيها لايقل حتى في المواسم التي تقل فيها الأمطار، وهذا يعني بأنها تعوض مياهها المفقودة من مياه الصرف الصحي الملوثة”.
وينبه إلى أن بناء وحدات سكنية في أطراف دهوك المرتفعة مقارنة بمركز المدينة، يؤدي إلى “تسرب المياه الملوثة من القساطل غير الخرسانية إلى المياه الجوفية، مما يسبب تلوثها”، مطلقا جرس انذار بوجوب معالجة تلك المشكلة، خاصة ان توسع الحركة العمرانية مع زيادة عدد السكان وفي ظل التغيرات المناخية وقلة الأمطار، ستحمل تداعيات خطرة تؤثر على مستقبل المياه الجوفية.
ويقول حيدر، ان انخفاض منسوب مياه بحيرة سد الموصل ومجرى نهر دجلة سيجبر الحكومة المحلية في دهوك مستقبلا:”على الاعتماد على الآبار المائية، لتلبية حاجة المواطنين، ولهذا
يجب العمل على تجنيب هذه الآبار مصادر التلوث، وهذا لن يتحقق دون معالجة علمية صحيحة لمياه الصرف الصحي”.
ويذكر أن معدل منسوب المياه الجوفية في دهوك يتراوح بين 100 إلى 150 متر تقريباً: “وعند إنشاء المشاريع السكنية أو الصناعية، لا يتم إعلامنا لنعطي رأينا، بينما دائرتنا تأخذ رأي الجهات المعنية عند حفرها لأي بئر ماء”.
مسؤول قسم التخطيط في دائرة المياه الجوفية، ناشد الحكومة بالتركيز على سياسة بناء السدود والاعتماد على مصادر المياه السطحية للاستخدامات الزراعية والري للحفاظ على المياه الجوفية، ودعا إلى إعلام دائرته عند تخصيص أي مكان جديد لتجميع النفايات “لدراسة مدى صلاحية المنطقة ومنع تسببها بتلوث المياه الجوفية”.
كما طالب ببناء وحدات معالجة لكل مياه الصرف الصحي لمنع صبها في نهر هشكه روو ونهر دهوك وبالنتيجة وصولها إلى بحيرة سد الموصل وزيادة نسب التلوث في مياهها، مؤكدا ضرورة استشارة دائرته عند بناء القساطل للمشاريع السكنية الكبيرة “لضمان البناء السليم لها”.
مدير دائرة الماء في دهوك، المهندس المدني فكير أحمد علي، يقول بأن مدينة دهوك تعتمد على مصدر آخر من المياه السطحية فضلاُ عن مشروع ماء خراب ديم، وهي مياه بحيرة سد دهوك، ولا سيما في مواسم الأمطار الغزيرة، إذ “يتم تزويد المواطنين بهذه المياه وبنسبة تصل الى 10% بعد فحصها والتأكد من صلاحيتها للشرب”.
ويرى المهندس فكير، أن طبيعة دهوك الجغرافية الجبلية المكونة من مرتفعات ومنخفضات تجبرهم على استخدام المياه الجوفية في بعض المواقع، مبينا أن تلك الطبيعة “تعرقل إنشاء خزان وشبكة مياه واحدة لتزويد جميع السكان، لذلك يتم اللجوء إلى حفر الآبار”.
بل ويقترح على أصحاب مشاريع الوحدات السكنية العمودية الشقق حفر آبار لتأمين المياه “نظراً لصعوبة تزويدها عن طريق القناة أو الخزان الرئيسي”.
ويطمئن السكان بشأن جودة المياه المزودة للسكان: “لدينا مختبرات لفحص نوعية المياه بشكل شهري، والدائرة تتعامل مع 161 بئر ماء، 53 منها مخصصة لمركز المدينة”.
ويستدرك :”تم تسليم 27 من هذه الآبار إلى بلدية دهوك، بعد ازدياد نسبة النترات فيها عن الحد المسموح به وهي 50 مليغراما في لتر واحد من الماء، ليتم استخدام مياهها من قبل البلدية في ري الحدائق والمناطق الخضراء الداخلية”.
الرقابة ومعاقبة المخالفين
مديرية بيئة دهوك، أكدت عزمها على محاسبة المتسببين في تلويث البيئة، سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات أو جهات تجارية. وذلك بإتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة واحالة المخالفين إلى القضاء. هذا ما أفاد به المهندس دلشاد عبد الرحمن، مدير دائرة بيئة دهوك.
وتؤكد مديرية بيئة دهوك أن من أولوياتها عملها مراقبة جودة المياه، سواء من خلال زيارات فرق المتابعة أو استجابةً لشكاوى المواطنين أو المعلومات التي تصلهم عن طريق الجهات ذات الصلة مثل البلدية ودائرة الماء والمجاري.
ويقول عبد الرحمن، ان الآلية التي تجري فيها المراقبة تشتمل على أخذ عينات للتحليل في المختبر، والاعتماد على الفحصين الرئيسيين BOD-CODوفي حال تجاوزت النتائج المستويات المحددة من قبل منظمة الصحة العالمية، تتخذ المديرية الإجراءات الإدارية والقانونية.
مسؤول الشعبة القانونية في دائرة بيئة دهوك، الحقوقي شيروان أكرم، أكد بدوره تنفيذ عمليات متابعة، بما فيها للتجمعات السكانية العمودية وذلك منذ العام 2017 للتحقق من التزامها بشروط معالجة مياه الصرف الصحي، مقرا بوجود مجمعات لا تمتلك وحدات للمعالجة أو وحدات المعالجة فيها غير كفوءة، فيؤدي ذلك إلى تصريف مياه ملوثة تضر البيئة.
وبشأن الآليات القانونية التي تعتمدها المديرية، يقول “في البداية توجه إنذارات لمعالجة المشكلة خلال فترة زمنية محددة، وفي حال عدم القيام بذلك يتم فرض غرامات مالية على المخالفين”.
ويوضح أن الإجراءات المتخذة من قبلهم تجري وفق تعليمات هيئة حماية وتحسين البيئة لسنة 2023، وهي شهدت توسعا في السنوات 2020-2021-2022 لتشمل أقضية محافظة دهوك، وتم فرض غرامات مالية على مجمعات سكنية في مراكز مدن دهوك وعقرة وزاخو وسميل، تراوحت بين 3 إلى 8 مليون دينار 2283 إلى 6089 دولار.
ويلفت الى ان الاجراءات القانونية اعتبارا من سنة 2023 بدأت تتخذ عبر المحاكم، إذ أقيمت دعاوى قضائية عديدة ضد أصحاب المجمعات السكنية المخالفة للقانون، وتم تغريمهم خلال الجلسة الأولى من كل محاكمة، مشددا على ان ما يتم هو بهدف حماية البيئة والصحة العامة.
لكن تظل تلك الاجراءات وفق باحثين وناشطين بيئيين، محدودة التأثير، والتجاوزات على البيئة مستمرة في الكثير من المشاريع، بما فيها التجاوزات المهددة للمياه الجوفية، فيما تغيب المحاسبة القانونية عن استخدام مياه الصرف الصحي الملوثة في الزراعة.
يقول مدير قسم الرقابة والسلامة الغذائية في مديرية شؤون الوقاية الصحية في دهوك، المهندس دلشاد عز الدين موسى، ان دائرته لا تتخذ الإجراءات القانونية بحق المزارعين الذين يستخدمون مياه ملوثة في الري “إلا خلال مواسم انتشار مرض الكوليرا لمنع اتساع المرض”، مؤكدا ان فرقاً تابعة لدائرته سبق أن قامت بإتلاف العديد من المزارع بالتنسيق مع مديرية البلدية ودائرة الماء ومحافظة دهوك.
ويقر بأن أي إجراءات لاتتخذ في الحالات الاعتيادية ضد المزارعين الذين يستخدمون مياهً ملوثة في سقي مزروعاتهم رغم تسويقها باستمرار والتحذيرات الصحية بشأنها.
تصريف المياه الملوثة في المجرى الخرساني لنهر دهوك
يُحمل، عماد ناجي 43 سنة وهو موظف حكومي يقيم في حي الأسرى بمدينة دهوك، الدولة مسؤولية منع انتاج وتسويق المحاصيل الزراعية المسقية بمياه ملوثة، يقول: “من أين سأعرف بأن ما اشتريه من الخضر والفواكه مروية بمياه ملوثة أم نقية، وهل ينبغي علي أن أسأل البائع عن ذلك في كل مرة، وهل سيكون صادقاً معي؟”.
هو يرى أن معالجة مشكلة مياه الصرف الصحي التي تهدد المياه الجوفية، يجب ان تأتي من خلال قوانين او اجراءات حكومية:”في دهوك، ألزمت السلطات المواطنين الذين يبنون منازل بقياسات معينة، على أن يكون هنالك مرآب ضمن مساحة البناء، لمنع الازدحامات، يمكنها بالقياس على ذلك أن تضع شروطاً خاصة لمعالجة مشكلة مياه الصرف الصحي”.
وينبه أيضا الى استمرار مشكلة تصريف مياه الأمطار “تتكرر الفيضانات في الربيع، وتطفح مياه الصرف الصحي وتتوزع في الشوارع وتدخل المنازل، لم يتم معالجة الأمر رغم ما يخلفه من خسائر سنويا”.
ثم يقول، وهو يشير الى مجرى مليء بالعبوات البلاستيكية قرب سوق وسط المدينة: كانت دهوك وحتى قبل سنوات ذات مياه نقية وهواء منعش، الآن نعاني من تلوث في المياه بسبب مياه الصرف، وتلوث في الهواء بسبب معامل تكرير النفط غربي المدينة ومكبات النفايات القريبة، فضلاً عن التغيير المناخي الذي بات يؤثر على كل شيء حولنا”.
التقرير: أنجز التحقيق بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية وبدعم من CFI