عقدان على سقوط بغداد: المآسي بالأرقام
السابعة- متابعة
ينتهي حديث العراقيين في 9 أبريل/ نيسان من كلّ عام، والذي يصادف ذكرى سقوط بغداد في عام 2003 بيد الأميركيين وحلفائهم، بحساب الخسائر البشرية والمادية والتغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي تكبدتها بلادهم جراء الاحتلال الأميركي، وما أعقبه من خراب، لا تزال أرقامه الرسمية محجوبة بقرار ساري المفعول منذ سبتمبر/ أيلول 2006، ما يجعل تلك الخسائر حبيسة التقديرات أو التسريبات من بعض الجهات والمسؤولين.
إلا أن العام الحالي بدا مختلفاً كثيراً من جهة تصدّر أسئلة مستقبل “دولة المواطنة”، والحريات وكيفية الخروج من قالب العملية السياسية المبنية على أسس المحاصصة الطائفية والعرقية، الذي أسسته الولايات المتحدة عبر مجلس الحكم الانتقالي، برئاسة الحاكم الأميركي عقب الغزو بول بريمر.
ويختصر الأستاذ الزائر في جامعة بغداد أحمد سلمان العملية السياسية التي تأسست عقب الغزو الأميركي للبلاد بأنها “بناء بأساس أعوج مبني على المحاصصة، كلما ارتفع زاد ميله، واقترب أكثر من الانهيار”.
ويقول سلمان إن “نفس القوى والوجوه التي جاءت مع القوات الأميركية في مثل هذا اليوم قبل 20 عاماً لا تزال تحتكر السلطة، وتحارب أي حراك ناشئ من الداخل، يحمل وجهاً مدنياً أو ليبرالياً”.
ويضيف: “في عام 2003 كان عدد سكان العراق 26 مليوناً، واليوم يبلغ أكثر من 40 مليوناً. نحن هنا نتحدث عن جيل كامل ولد وكبُر بعد الاحتلال، يُراد تطويعه بشعارات وخُطب لم تعد صالحة لزمنه ولا تفكيره”. ويعتبر أن “مفتاح وقف تداعيات الاحتلال هو تفكيك منظومة المحاصصة الطائفية السياسية، وهذا غير متاح، بل يكاد يكون مستحيلاً مع المعادلات الصعبة الموجودة في المنطقة اليوم”.
في العاصمة بغداد التي تتصدر مدن البلاد بعدد مقرات الأحزاب والفصائل المسلحة بواقع يقارب الـ500 مقر ومكتب وممثلية، يكافح الناشطون المدنيون للدفاع عن حقوق يقولون إن واشنطن كانت تستعملها شعاراً في حملة احتلال العراق، وهي حرية التعبير والرأي، بعد سلسلة عمليات اعتقال وتهديد طاولت صحافيين ومدوّنين، اضطرت الكثير منهم لمغادرة بغداد إلى مناطق أخرى.
ويقول عضو التيار المدني العراقي حسين العتابي 29 سنة إن “الأحزاب الإسلامية تمكنت من التكيف مع الانتخابات واحتكار السلطة من خلالها، على الرغم من فشلها في إدارة البلاد“.
ويعتبر العتابي، في حديث مع “العربي الجديد”، أنهم “يكافحون” من أجل “سن قوانين نُدرك أنها لن تمنحنا حصانة من الأحزاب والجماعات المسلحة المساندة لها، مثل حرية التعبير والرأي وحق التظاهر”.
ويصف أوضاع بغداد الحالية بأنها “حريات تحت سقف مرضي عنه من قبل الفصائل والأحزاب الرئيسية، متى ما تجاوزه الشخص سيجد نفسه مختطفاً أو مقتولاً أو مهدداً بالقتل”. ويصف قرار السلطات في مارس/ آذار الماضي بـ”حظر بيع أو صناعة أو استيراد الخمور في العراق، بأنه استكمال لمشروع أسلمة الدولة، والقضاء على التنوع والتعدد الفكري والديني والثقافي في العراق”.
مشكلات لم تتغير وشعارات متكررة
وحملت انتخابات 2006 و2010، و2014، و2018، و2021 نفس الشعارات بالنسبة لنفس القوى والأحزاب المشاركة في السلطة منذ الاحتلال الأميركي، من دون أن يطرأ أي تغيير أو حل، يلمسه العراقيون، على واقع تلك الوعود.
ويعتبر ملف الكهرباء في العراق الأكثر إلحاحاً في بلاد تسجل درجات حرارة قياسية، تتجاوز الخمسين مئوية. ولا يزال العراقيون يحصلون على نحو 8 ساعات كهرباء يومياً في الشتاء، وفي الصيف أقل من ذلك. وتشير أرقام رسمية لوزارة الكهرباء وهيئة النزاهة إلى أن البلاد أنفقت 41 مليار دولار على قطاع الكهرباء منذ 2006 من دون تغيير.
ويحل ثانياً ملف المياه الذي سجل العام الحالي خروج عدد من محطات مياه الشرب على نهري دجلة والفرات من الخدمة، بعد تراجع مناسيب النهرين إلى مستويات قياسية غير مسبوقة. كما ألغت وزارة الزراعة، في العامين الماضيين، زراعة نحو نصف المساحات الزراعية في البلاد لتلافي نقص المياه، فيما لجأت محافظات عديدة إلى حفر الآبار.
وبحسب تقارير وزارة الموارد المائية العراقية، فإن نسبة المياه الواصلة للعراق من نهري دجلة والفرات انخفضت من 22 مليار متر مكعب عام 2003 إلى 9.5 مليارات متر مكعب، ما يعني أن نصيب الفرد العراقي من المياه وفقاً لتعداد السكان، يبلغ أقل من 470 متراً مكعباً في العام، وهو أقل من معايير منظمة الصحة العالمية البالغة 1700 متر مكعب سنوياً.
ويحصد ملف الفقر في العراق درجات متقدمة من اهتمامات الشارع. فعلى الرغم من أرقام وزارة التخطيط الرسمية التي تحدثت عن وجود 11 مليون عراقي تحت خط الفقر، بما يعادل نحو 25 في المائة من السكان، أقل من 8 دولارات باليوم إلا أن الواقع يشي بأرقام أعلى، خصوصاً في المدن والمناطق المدمرة جراء احتلال تنظيم “داعش” لها، والعمليات العسكرية فيها.
أما نسبة البطالة فتحل عند عتبة الـ16.5 في المائة، وفقاً لأرقام مشتركة صدرت نهاية العام الماضي عن الحكومة ومنظمة العمل الدولية، التي حذرت من أن البطالة بين النساء أعلى بكثير من الرجال، لكن في محافظات أخرى، مثل المثنى جنوبي العراق، وصلاح الدين شمالاً، تقول الحكومات المحلية إن البطالة تجاوزت عتبة الـ40 في المائة.
ويبرز انتشار السرطان في العراق كواحد من أهم آثار الحروب المدمرة التي عصفت بالبلاد خلال العقود الأخيرة. وتدفع البصرة وبابل والفلوجة وبغداد، الثمن الأكبر في عدد حالات السرطان، وخاصة عند النساء، بواقع 57 في المائة من الإصابات الإجمالية، وأبرزها سرطان الرحم والثدي والدم. ويُقدر عضو نقابة الأطباء العراقية الدكتور وليد العاني، عدد الإصابات السنوية بـ 120 لكل 100 ألف نسمة، تُكتشف غالبيتها بالمرحلة الثالثة أو الرابعة، بشكل يستحيل علاجها.
أرقام خراب وموت غير رسمية
للعام العشرين على التوالي تواصل الحكومات العراقية المتعاقبة حظر تصريح مؤسساتها عن أرقام أو تفاصيل خسائر البلاد جراء الاحتلال الأميركي، وما أعقبه من دوامة عنف وخراب عمت سائر بلاد الرافدين، خصوصاً فيما يتعلق بوزارتي الداخلية والصحة.
مسؤول عراقي رفيع المستوى في وزارة الداخلية في بغداد، زوّد بأرقام جديدة للضحايا والمصابين والمختفين قسراً، موضحاً أن “العراق غير قادر على تقديم أي أرقام دقيقة بالوقت الحالي لخسائر ما بعد 2003“.
ووفقاً للمسؤول فإن “ما لا يقل عن 650 ألف عراقي قتلوا بعد عام 2005، ولغاية العام الماضي، ولا يُعلم على وجه الدقة عدد من قضى بين 2003 وحتى نهاية 2004 لأسباب معروفة تتعلق بعدم التوثيق والفوضى التي ضربت البلاد، وانهيار المؤسسات المسؤولة عن مثل هذه الأرشفة، لكن بطبيعة الحال العدد كبير أيضاً”. ويكشف أن الفترة من 2005 ولغاية 2022 سجّل فيها أكثر من مليون مصاب وجريح في عموم مدن العراق.
وتتصدر بغداد ونينوى وديالى والأنبار وصلاح الدين قائمة أكثر المحافظات خسائر بشرية، تليها نينوى وواسط والبصرة. وكانت أعوام 2006، و2007 و2015، و2016 الأكثر دموية في العراق خلال العقدين الماضيين، من ناحية عدد القتلى والجرحى والمفقودين.
في المقابل فإن التقديرات تشير إلى وجود نحو 90 ألف مفقود منذ 2003، قسم منهم خلال الحرب الأميركية على العراق، وآخرون خلال موجة العنف والإرهاب التي عصفت بالبلاد خلال العقدين الماضيين، من بينهم نحو 26 ألفاً، تم اختطافهم على يد مليشيات مسلحة حليفة لإيران عام 2015، خلال نزوحهم من مناطقهم. على الطرف الآخر، فإن صفحة النزوح والتهجير الداخلي والخارجي التي لم تُطو لغاية الآن، لا تزال تتفاعل سياسياً وإنسانياً.
ولا يزال قرابة مليون عراقي نازحين داخل البلاد، من بينهم 28 ألف أسرة تقيم في مخيمات ومعسكرات نزوح شمال وغرب ووسط البلاد، بينما تشير تقديرات غير رسمية إلى وجود ما لا يقل عن 5 ملايين عراقي خارج البلاد منذ عام 2003. كما تتواصل ظاهرة “المدن منزوعة السكان”، التي تحتلها مليشيات وجماعات مسلحة حليفة لإيران، مثل جرف الصخر ويثرب والعوجة وعزيز بلد والعويسات، وذراع دجلة، وإبراهيم بن علي، وآمرلي، والسعدية وقرى المقدادية ومكحول وسنجار.
5 ملايين يتيم.. وبغداد مدينة الأرامل
كما تكشف أرقام مفوضية حقوق الإنسان العراقية عن وجود “أكثر من 5 ملايين طفل يتيم في العراق”. وسبق أن قال عضو مجلس أمناء المفوضية أنس العزاوي، في تصريحات منتصف العام الماضي، إنهم يعانون ويحتاجون للدعم.
في المقابل، تشير أرقام رسمية صادرة عن دائرة الحماية الاجتماعية إلى وجود أكثر من 300 ألف أرملة في بغداد وحدها، أكثر من نصفهن دون سن الأربعين عاماً، بينما يبلغ مجموعهن في عموم مدن البلاد مليونين ومائة ألف أرملة، لا يحصل أكثر من 35 في المائة منهن على المساعدات الحكومية، المعروفة بمرتبات الرعاية الاجتماعية.
بالإضافة إلى ذلك تُظهر أرقام نقابة المعلمين العراقيين ارتفاع نسبة الأمية في البلاد إلى 10 ملايين شخص وفقاً للمتحدث باسم النقابة ناصر الكعبي، الذي تحدث للصحافيين ببغداد العام الماضي، مشيراً إلى أن الأمم المتحدة أبلغتهم بأن العدد المقدر هو 11 مليون أمي بالبلاد، بواقع 25 بالمائة من مجموع سكان البلاد.
وباتت المخدرات، التي تقول وزارة الداخلية إنها تخوض حرباً منذ عامين مع تجارها ومهربيها، واحدة من أكثر الممنوعات مقدرة على الوصول إليها، بسبب الانتشار الكبير ورخص ثمنها. ويقدر مسؤول في وزارة الداخلية، نسبة الجرائم التي تُرتكب تحت تأثير المخدرات بأنها أكثر من 70 في المائة، وأن اثنين من كل 10 شباب متعاطون بشكل منتظم لها، فيما تتصدر بغداد مدن العراق في التعاطي والاتجار بها.
فشل في صناعة بديل سياسي لبناء العراق
عضو مجلس الحكم الذي أشرفت الولايات المتحدة على تأسيسه عقب غزوها البلاد، القاضي وائل عبد اللطيف يقول، إن “فكرة التغيير والتحول إلى الديمقراطية كانت هاجساً مقلقاً في ظل الاحتلال الأميركي والسلطة الأبوية التي مارسها بول بريمر على جميع الشخصيات العراقية في مجلس الحكم. لذلك فإن فكرة التحوّل الديمقراطي كانت تتشوه كل يوم، من جرّاء الممارسات الأميركية في الحكم والشوارع والمؤسسات. وأعني الانتهاكات والقتل المتعمد الذي وقع، رغم أن الولايات المتحدة كان بإمكانها تثبيت الحكم القوي في العراق، لكنها لم تفعل” ذلك.
ويضيف عبد اللطيف أن “الاضطراب النفسي وعدم القدرة على توقع ما سيحدث في المستقبل هو الذي سيطر علينا حين أسقطت القوات الأميركية تمثال صدام حسين في بغداد، لا سيما مع بدء حالة التهديدات من التنظيمات الإسلامية المتطرفة بالنيل من الأميركيين والمتعاونين معهم”.
ويعتبر أن “20 عاماً على احتلال العراق أثبتت مرارة التجربة وفشلها وعدم قدرتها على صناعة بديل سياسي حقيقي لبناء العراق وإرجاع هيبته بعد أن دمرته الحروب. فقد بات من البلدان المنهوبة الذي يشهد تراجعاً في كل شيء. ولعل الاقتصاد والحريات على رأس هذه الملفات. والمشكلة أن توبيخ هذا النظام يُفهم على أنه تغنٍ بالنظام السابق وهذا غير صحيح، لأن نظام ما بعد 2003 على علّاته أفضل بكثير من نظام صدام حسين”.
من جهته، يبيَّن الخبير القانوني علي التميمي أنّ “العراق شهد خلال السنوات العشرين الماضية حالات تنصل من تطبيق القوانين، كما أن بعض السلطات لم تفهم آلية التعامل مع القانون، لأن بعض هذه السلطات وجدت نفسها مفرطة القوة ولديها الشرعية في التعامل مع جميع الفئات، سواء السياسية أو المدنية”.
ويعتبر التميمي، أن “العراق لا يزال خاضعاً لنظام الوصاية الخاصة بتوطيد السلم والأمن والعمل على ترقية الأهالي في الأمور السياسية والاقتصادية والتعليم والتشجيع على احترام حقوق الإنسان، وبقاؤه تحت الوصاية يعني أنه لم يتقدم كثيراً في هذه الملفات، ولم يتأهل إلى مرحلة الخروج من الوصاية، وهذا يتحمله النظام الحاكم بكل الحكومات التي يؤشر إلى أنها كان تخفق دائماً في عبور الأزمات”.
من جانبه، يشير عضو مفوضية حقوق الإنسان العراقية السابق علي البياتي، إلى أن “ما حدث عام 2003 كان من المفترض أن يضمن الحريات، خصوصاً أن العراق وقّع على الكثير من الاتفاقيات الخاصة بحرية التعبير وبقية الحريات”.
ويضيف: “لكن للأسف بقيت مسألة الحريات شكلية ونظرية، والقوى السياسية هي المتحكمة والمستفيدة من فضاء الحرية، سواء في ممارساتها الإعلامية والسياسية والتعامل مع الجمهور”.
ويؤكد البياتي، أن “هناك مواطنين سجنوا بسبب آرائهم، وللأسف القضاء العراقي يستجيب للدعاوى السياسية ضد الإعلاميين والناشطين، والأحزاب استغلت وجودها في السلطة لمحاربة الأصوات المنتقدة”.
ووفقاً للبياتي فإن “مؤشرات الحريات والعدالة الانتقالية في تراجع مستمر، ومثال على ذلك عدم تحقق العدالة بشكل كامل في ملفات كبرى مثل سقوط الموصل، بينما لدينا سجناء رأي بالعراق وفي إقليم كردستان. ورغم الإفراج عن غالبيتهم لكن هناك تحقيقات قاسية أحياناً تجرى معهم”.
المصدر: العربي الجديد